... لم يكن عاشقاً أو بائعَ ورد ، بل كان لصاً يُتقن التخطيط لسرقاته ، و رغم أن العطس لم يكن يفارقه أثناء بيعه للورد أمام بوابة ذلك المنزل الكبير ، الا أن سرقة الورد من المزرعة المجاورة لبيته بدا أكثر يُسراً من سرقة شيءٍ آخر و بيعه ، فالورد كان ذريعته للمرابطة أمام ذلك المنزل دون أن يثير الشبهات ، سيدة المنزل امرأةٌ جميلة ، متصابية بعض الشيء ، و تُكثر من وضع مساحيق التجميل ، لكنها سيدةٌ رقيقة و دائماً ما كانت تشتري وردةً من اللص كلما لمحته ، أما زوجها فهو رجلٌ قاسي الملامح ، أنيقٌ و متغطرس و يبدو ذلك جلياً في مشيته الطاووسية ، لطالما تحدث عنه الكثيرون حتى أن الخدم كانوا يعزفون عن العمل لديه لما سمعوا عنه من سوء المعاملة ، و لذلك كان بيته خالياً من الخدم و كانت حجته في ذلك أنه لا يثق بهم ، و لتلك العائلة ولدان ، أحدهما طالبٌ جامعيٌ غريب الأطوار ، دائماً ما يكون في عجلةٍ من أمره و بدا هزيلاً و به خطبٌ ما ، و شقيقه الصغير ذي الثمانية أعوام كان طفلاً شقياً و لطيفاً و دائم الضحك ... كان اللص يترقب تحركات تلك العائلة فما أن تُفتح البوابة الرئيسية قليلاً حتى تبدأ عيناه عملهما بأخلاصٍ و دقة و تجمعان أكبر قدرٍ من الصور في دقائق معدودة ، السياران الفارهتان اللتانِ تمتلكهما تلك العائلة و المجوهرات اللامعة التي تتزين بها السيدة وذلك المنزل الكبير ، دليلٌ على ثراءٍ أكيد و بسطٍ في الرزق ، استمر اللص بائع الورد في متابعة تحركات تلك العائلة ، عازماً على اختراق حصنهم و الظفر بأكبر قدرٍ من الغنائم .. حتى واتته فرصته المرتقبة ... كان الصباح ربيعياً ذلك اليوم و كانت الأشجار قد تشابكت أغصانها في تودد ، كأنها تتصافح بعد غيابٍ طويل ، فُتحت بوابة المنزل و كانت العائلة تستعد للخروج ، الولدان يحملان حقائب السفر و يضعانها في صندوق السيارة بينما كانت والدتهما تعدل مرآة السيارة الصغيرة و تضع طبقةً مضاعفة من أحمر الشفاه فوق شفتيها ، و الوالد ينظر الى ساعته و يطلب من ولديه الأسراع ، تمكن السارق من رصد تلك التحركات و نظراً لحجم حقائب السفر و عددها فقد استنتج أنهم ذاهبون في اجازةٍ طويلة ، انهى الولدان مهمتهما و استقلا السيارة ، و غادرت العائلة الى وجهتها ، عاد اللص الى بيته و رمى الورد في طريق عودته ’ فلم يعد بحاجةٍ له ، كما أن العطس قد نال منه بما يكفي ، و عندما حلَ المساء كان مستعداً لبدء غزوته ، أتم تجهيز عدته و ارتدى زيه الأسود و توجه الى ذلك المنزل بعد أن راحت البلدة في سباتها العميق و خلت الشوارع من الأقدام و عجلات السيارات ، لم يكن من الصعب عليه القفز من على السور المنخفض، كما لم يكن صعباً عليه أيضاً فتح باب المنزل بأحدى أدواته ، دخل بهدوء و تمكن من اضاءة مصباحه الصغير ، بدا البيت جميلاً و مرتباً ، كانت جدرانه مزدانة باللوحات باهظة الثمن و بالتحف الجميلة ، لكن اللص لم يكن مهتماً الا بما خف وزنه و غلا ثمنه .... ولج الى احدى الغرف ، كانت المكتبة الخشبية الأنيقة مزدحمةً بصنوفٍ من الكتب و المجلدات ، يتوسط الغرفة مكتبٌ من خشب البلوط الفاخر ، و خزانةٌ خشبيةٌ بطول الحائط ، حاول اللص فتح الخزانة و نجح في ذلك بعد جهد ليجد في داخلها خزنةً حديديةً أخرى مغلقةً بأحكام ، لكن لص الخزائن كان محترفاً ، بحث في حقيبته و أخرج بعض الأدوات و في دقائق معدودة كانت الخزنة قد استسلمت و كشف له جميع أسرارها ، رزمٌ من الأوراق المالية و الكثير من الأوراق و الملفات ، جمع النقود و وضعها في حقيبته ثم أغلق الخزنة لكن فضوله دفعه الى تقليب تلك المستندات و الأوراق ، فأعاد فتح الخزنة ، لفت انتباهه ظرفٌ مغلق ، فتحه ليفاجئ بصور شيكاتٍ موجهةٍ لبعض الأسماء التي بدت مألوفةً و معروفةً لديه ، من بينهم رئيس البلدية و أحد نوابها المعروفين ، كانت المبالغ كبيرة و مثيرة للشبهة ، لم تكن تلك الأوراق لتشغل حيزاً كبيراً في حقيبة اللص فلم يتردد في أخذها ، وجد أيضاً كشوفاتٍ مالية مزورة و أخرى حقيقية أما الحقيقية فكان مصيرها السجن الأبدي داخل هذه الخزنة الحديدية و المزورة كانت في طريقها الى مصلحة الضرائب ، لم يتردد اللص في أخذها أيضاً و ترك بدلاً منها ورقةً موجهةً الى صاحب المنزل كتب فيها " أنا اللص الذي سرق نقودك و أوراقك ، اذا قمت بالأبلاغ عني فستكون جميع تلك الأوراق في عهدة الشرطة بعد دقائق من القاء القبض علي ، كن متأكداً من ذلك زميلي العزيز " ، أغلق الخزنة ثم توجه الى الغرف العلوية ، كانت غرفة نوم الزوجين في أول الرواق و رائحة عطر السيدة ما يزال عالقاً في الأنحاء فتح خزانة الملابس ليجد صندوقاً صغيراً مزيناً بالأحجار اللامعة ، يقع فوق احدى الرفوف ، كسر قفل الصندوق و فتحه فأذا ببريقٍ يخطف الألباب قد أشرق من الداخل ، ذهبٌ و مجوهرات و عقدٌ من الماس ، أفرغ محتويات الصندوق في حقيبته و بدأ في البحث بين الملابس المرتبة بعناية فوق الرفوف ، لأن النساء عادةً ما يخفين بعض النقود بين طيات الملابس ، صدق تخمينه و أصاب حدس الرجل فيه ، فوجد نقوداً و ظرفاً ورقياً أخذ النقود و فتح الظرف و هاله ما رآى ، رسائلَ عشقٍ و هيام بين الزوجة و رجل ما و مواعيد غرامية في غفلةٍ من الزوج ، أخذ اللص الظرف الورقي و دسه في حقيبته و ترك في صندوق المجوهرات ورقةً كتب فيها " أنا اللص الذي سرق مجوهراتك ، اذا تكلمت بهذا الشأن لأي أحد و تم القاء القبض علي فستكون رسائلك بين يدي زوجك ، لدي أصدقاء كُثر يكرهون الزوجات الخائنات ، بالمناسبة ذوقك جميل في اختيار الأحجار الكريمة " ... غادر غرفة النوم باتجاه غرفةٍ أخرى تحاذيها ، كانت صور الفنانات و لاعبي كرة القدم المعلقة على الحائط تشير الى أن هذه لا بد و أن تكون غرفة الأبن الأكبر ، تمتم اللص في قرارة نفسه " ما الذي يمكن أن أجده في هذه الغرفة " تجول بها كثيراً ، عبث في الأدراج ، لفت انتباهه دُرجاً واحداً مقفلاً بعناية ، واجه اللص بعض الصعوبة أثناء فتحه ، لكنه نال منه في النهاية ، و وجد فيه ساعة يدٍ رجالية مصنوعةً من الذهب الخالص و خاتمان من الذهب كذلك ، بعض الأوراق مبعثرٌ بطريقةٍ غير مرتبة و هناك الكثير من العقاقير و الأدوية ، أمسك عقاراً بين يديه و أدرك على الفور أنها حبوبٌ مخدرة كانت الكمية الموجودة في الدرج هائلة و اللص ذو الخبرة الأجرامية مدركٌ لكل صنفٍ من تلك الأصناف ، لكنه ليس مهتماً بالمخدرات ، ترك العقاقير في مكانها و أخذ الساعة و الخاتمان و ترك في الدرج ورقةً كتب فيها " أنا اللص الذي سرق ساعتك الذهبية و خاتماك ، سيكون مستقبلك الجامعي في خطر اذا ما أخبرت أحداً بهذه السرقة ، ليس من الصعب على أي طبيب أن يُدرك أنك مدمن بل و قد تكون مروجاً أيضاً ، أنصحك بشراء ساعةٍ جديدة و الأقلاع عن تعاطي هذه القاذورات " ... نظر اللص الى ساعته الذهبية الجديدة ، كانت تُشير الى الثالثة صباحاً ، استوقفته الغرفة الوحيدة المتبقية في الطابق الثاني ، دخلها لدقائق معدودة ثم خرج يحمل في يديه شيئاً دائرياً ملوناً ، كانت تلك غرفة الولد الصغير ، أحكم اللص اغلاق باب المنزل ، كأن لم يدخله أحدٌ بعد سفرهم و اختفى في غياهب الليل محملاً بالنفائس ، ممتطياً الريح كفارسٍ منتصر ، وصلت العائلة الى المنزل بعد نحو أسبوعٍ من حادثة السرقة ، كان الوقت ظهراً و الشمس محكمةً قبضتها على السماء ، باسطةً نفوذها الدافيء على الأرض ، دخلوا الى المنزل و قد أنهكهم التعب ، بدا كل شيءٍ طبيعي ، لا أثر لاقتحام البيت ، اللوحات في مكانها و البيت على حاله ، أوى كلٌ الى غرفة نومه لأخذ قسطٍ من الراحة ، عدا الأب الذي توجه الى مكتبه لأجراء بعض المكالمات الهاتفية ، مكث الجميع في مخادعهم لما يزيد عن الساعتين و اجتمعوا على طاولة الغداء باستثناء الصبي الصغير ، كان التوتر سيد المكان و القلق رافقه أيضاً ، كانت العيون تتحاشى الألتقاء ببعضها خوفاً من أن تبوح بما رأت و القلوب المختبئة كانت تخفق بشدة ، تأخر الصبي في غرفته ، فنادى عليه والده بصوتٍ مخنوق " ما بالك ألا تريد تناول غدائك ! خرج الطفل من غرفته باكياً و صرخ قائلاً " من أخذ حصالتي ! ... لم تستغرق الأجابة على سؤال الصبي بضعَ ثوانٍ ، حين رد الجميع و بذات الوقت و بصوتٍ واحد ............. أنا .